فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{أَفَلَا يعلم إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)}
فُرع على الإِخبار بكنود الإنسان وشحه استفهام إنكاري عن عدم علم الإنسان بوقت بعثرة ما في القبور وتحصيل ما في الصدور فإنه أمر عجيب كيف يغفل عنه الإنسان.
وهمزة الاستفهام قدمت على فاء التفريع لأن الاستفهام صدر الكلام.
وانتصب {إذا} على الظرفية لمفعول {يعلم} المحذوف اقتصارًا، لِيَذْهَبَ السامع في تقديره كلَّ مذهب ممكن قصدًا للتهويل.
والمعنى: ألا يعلم العذابَ جزاءً له على ما في كنوده وبخله من جناية متفاوتة المقدار إلى حد إيجاب الخلود في النار.
وحُذف مفعولا {يعلم} ولا دليل في اللفظ على تعيين تقديرهما فيوكل إلى السامع تقدير ما يقتضيه المقام من الوعيد والتهويل ويسمى هذا الحذف عند النحاة الحذف الاقتصاري، وحذف كلا المفعولين اقتصارًا جائز عند جمهور النحاة وهو التحقيق وإن كان سيبويه يمنعه.
و{بُعثِر}: معناه قُلب من سفل إلى علوّ، والمراد به إحياء ما في القبور من الأموات الكاملة الأجساد أو أجزائها، وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وإذا القبور بعثرت} في سورة الانفطار. و{حُصِّل}: جُمع وأُحصي.
و{ما في الصدور}: هو ما في النفوس من ضمائر وأخلاق، أي جُمع عَدُّه والحسابُ عليه.
{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)}
جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا ناشئًا عن الإِنكار، أي كان شأنهم أن يعلموا اطلاع الله عليهم إذا بعثر ما في القبور، وأن يذكروه لأن وراءهم الحساب المدقق، وتفيد هذه الجملة مفاد التذييل.
وقوله: {يومئذ} متعلق بقوله: {لخبير}، أي عليم.
والخبير: مكنَى به عن المجازى بالعقاب والثواب، بقرينة تقييده بيومئذ لأن علم الله بهم حاصل من وقت الحياة الدنيا، وأما الذي يحصل من علمه بهم يوم بَعثرة القبور، فهو العلم الذي يترتب عليه الجزاء.
وتقديم {بهم} على عامله وهو {لخبير} للاهتمام به ليعلموا أنهم المقصود بذلك.
وتقديم المجرور على العامل المقترن بلام الابتداء مع أن لها الصدر سائغ لتوسعهم في المجرورات والظرف كما تقدم آنفًا في قوله: {لربه لكنود} [العاديات: 6] وقوله: {على ذلك لشهيد} [العاديات: 7] وقوله: {لحب الخير لشديد} [العاديات: 8].
وقد علمتَ أن ابن هشام ينازع في وجوب صدارة لام الابتداء التي في خبر {إنَّ}. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)}
اختلف الناس في المراد: بـ: {العاديات}، فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة: أراد الخيل لأنها تعدو بالفرسان وتصيح بأصواتها، قال بعضهم: وسببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلًا إلى بني كنانة سرية فأبطأ أمرها عليه حتى أرجف بهم بعض المنافقين، فنزلت الآية معلمة أن خيله عليه السلام قد فعلت جميع ما في الآية، وقال آخرون: القسم هو بالخيل جملة لأنها تعدو ضابحة قديمًا وحديثًا، وهي حاصرة البلاد وهادمة الممالك، وفي نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وقال علي بن أبي طالب وحديثًا، وهي حاصرة البلاد وهادمة الممالك، وفي نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وإبراهيم وعبيد بن عمير: {العاديات} في هذه الآية: الإبل لأنها تضبح في عدوها، قال علي: والقسم بالإبل العاديات من عرفة ومن مزدلفة إذا وقع الحاج وبإبل غزوة بدر فإنه لم يكن في الغزوة غير فرسين: فرس المقداد وفرس الزبير بن العوام، والضبح: تصويت جهير عند العدو الشديد ليس بصهيل ولا رغاء ولا نباح، بل هو غير المعاد من صوت الحيوان الذي يضبح. وحكي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ليس يضج من الحيوان غير الخيل والكلاب، وهذا عندي لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنه، وذلك أن الإبل تضج والأسود من الحيات والبوم والصدى والأرنب والثعلب، والقوس هذه كلها قد استعملت لها العرب الضبح، وأنشد أبو حنيفة في صفة قوس: الرجز:
حنانة من نشم أو تالب ** تضبح في الكف ضباح الثعلب

والظاهر في الآية، أن القسم بالخيل أو بالإبل أو بهما، قوله تعالى: {فالموريات قدحًا} قال علي بن أبي طالب وابن مسعود: هي الإبل، وذلك أنها في عدوها ترجم الحصى بالحصى فيتطاير منه النار فذلك القدح.
قال ابن عباس: هي الخيل، وذلك بحوافرها في الحجارة وذلك معروف.
وقال عكرمة: {الموريات قدحًا}: هي الألسن، فهذا على الاستعارة أي ببيانها تقدح الحجج وتظهرها.
وقال مجاهد: {الموريات قدحًا}، يريد به مكر الرجال، وقال قتادة: {الموريات}، الخيل تشعل الحرب، فهذا أيضًا على الاستعارة البينة، وقال ابن عباس أيضًا وجماعة من العلماء: الكلام عام يدخل في القسم كل من يظهر بقدحه نارًا، وذلك شائع في الأمم طول الدهر وهو نفع عظيم من الله تعالى، وقد وقف عليه في قوله تعالى: {أفرأيتم النار التي تورون} [الواقعة: 71] معناه: تظهرون بالقدح، قال عدي بن زيد: الخفيف:
فقدحنا زنادًا وورينا ** فوق جرثومة من الأرض نار

وقوله تعالى: {فالمغيرات صبحًا} قال علي وابن مسعود: هي الإبل من مزدلفة إلى منى أو في بدر، والعرب تقول: أغار إذا عدا جريًا ونحوه، وقال ابن عباس وجماعة كثيرة، هي الخيل واللفظة من الغارة في سبيل الله وغير ذلك من سير الأمم، وعرف الغارات أنها مع الصباح لأنها تسري ليلة الغارة والنقع: الغبار الساطع المثار.
وقرأ أبو حيوة: {فأثّرن} بشد الثاء، والضمير في {به} ظاهر أنه للصبح المذكور، ويحتمل أن يكون للمكان والموضع الذي يقتضيه المعنى وإن كان لم يجر له ذكر، ولهذا أمثلة كثيرة، ومشهورة إثارة النقع هو للخيل ومنه قول الشاعر البسيط:
يخرجن من مستطير النقع دامية ** كأن آذانها أطراف أقلام

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو هنا الإبل تثير النقع بأخفافها، وقوله تعالى: {فوسطن به جميعًا} قال ابن عباس وعلي: هي الإبل، و{جمعًا}: هي المزدلفة، وقال ابن عباس: هي الخيل، والمراد جمع من الناس هم المغيرون.
وقرأ علي بن أبي طالب وقتادة وابن أبي ليلى: {فوسّطن} بشد السين، وقال بشر بن أبي حازم: الكامل:
فوسطن جمعهم وأفلت حاجب ** تحت العجاجة في الغبار الأقتم

وذكر الطبري عن زيد بن أسلم: أنه كان يكره تفسير هذه الألفاظ، ويقول: هو قسم أقسم الله به، وجمهور الأمة وعلماؤها مفسرون لها كما ذكرنا، والقسم واقع على قوله: {إن الإنسان لربه لكنود} وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أتدرون ما الكنود؟» قالوا لا يا رسول الله، قال: «هو الكفور الذي يأكل وحده ويمنع رفده، ويضرب عبده». وقد يكون من المؤمنين الكفور بالنعمة، فتقدير الآية: إن الإنسان لنعمة ربه لكنود، وأرض كنود لا تنبت شيئًا، وقال الحسن بن أبي الحسن: الكنود اللائم لربه الذي يعد السيئات وينسى الحسنات، والكنود العاصي بلغة كندة، ويقال للخيل كنود، وقال أبو زبيد: الخفيف:
إن تفتني فلم أطب بك نفسًا ** غير أني أمنى بدهر كنود

وقال الفضيل: الكنود الذي تنسيه سيئة واحدة حسنات كثيرة ويعامل الله على عقد عوض، وقوله تعالى: {وإنه على ذلك لشهيد} يحتمل الضمير أن يعود على الله تعالى، وقاله قتادة: أي وربه شاهد عليه، وتفسير هذا الخبر يقتضي الشهادة بذلك، ويحتمل أن يعود على {الإنسان} أي أفعاله وأقواله وحاله المعلومة من هذه الأخلاق تشهد عليه، فهو شاهد على نفسه بذلك، وهذا قول الحسن ومجاهد، والضمير في قوله تعالى: {وإنه لحب الخير} عائد على {الإنسان} لا غير، والمعنى من أجل حب الخير إنه {لشديد}، أي بخيل بالمال ضابط له، ومنه قول الشاعر طرفة بن العبد: الطويل:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ** عقيلة مال الفاحش المتشدد

و{الخير} المال على عرف ذلك في كتاب الله تعالى، قال عكرمة: {الخير} حيث وقع في القرآن فهو المال، ويحتمل أن يراد هنا الخير الدنياوي من ماله وصحة وجاه عند الملوك ونحوه، لأن الكفار والجهال لا يعرفون غير ذلك، فأما المحب في خير الآخرة فممدوح له مرجو له الفوز وقوله تعالى: {أفلا يعلم}، توقيف على المال والمصير أي أفلا يعلم مآله فيستعد له، و(بعثرة ما في القبور): تقصيه مما يستره والبحث عنه، وهذه عبارة عن البحث، وفي مصحف ابن مسعود: {بحث ما في القبور}، وفي حرف أبي: {وبحثرت القبور}، و{تحصيل ما في الصدور}: تمييزه وكشفه ليقع الجزاء عليه من إيمان وكفر ونية، ويفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يبعث الناس يوم القيامة على نياتهم».
وقرأ يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم بفتح الحاء والصاد ثم استؤنف في الخبر الصادق الجزم بأن الله تعالى خبير بهم {يومئذ} لكن خصص {يومئذ} لأنه يوم المجازاة فإليه طمحت النفوس وهذا وعيد مصرح، نجز تفسير سورة العاديات. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{والعاديات}
أقسمَ سبحانه بخيلِ الغُزاةِ التي تعدُو نحوَ العدوِّ وقوله تعالى: {ضَبْحًا} مصدرٌ منصوبٌ إما بفعلِه المحذوفِ الواقعِ حالًا منَها أي تضبحُ ضَبْحًا وهُو صوتُ أنفاسِها عندَ عدوها أوْ بالعادياتِ فإن العدوَ مستلزمٌ للضبحِ كأنَّه قيلَ: والضابحاتِ أو حالٌ على أنَّه مصدرٌ بمعنى الفاعلِ أيْ ضابحاتٌ {فالموريات قَدْحًا} الإيراءُ إخراجُ النَّارِ والقدحُ الصَّكُّ يقال قدحَ فأَوْرَى أيْ فالتي تُورِى النارَ منْ حوافرِها وانتصابُ قَدحًا كانتصابِ ضبحًا على الوجوهِ الثلاثةِ {فالمغيرات} أسند الإغارةَ التي هيَ مباغتةُ العدوِّ للنهبِ أو للقتلِ أو للأسرِ إليَها وهيَ حالُ أهلِها وإيذانًا بأنَّها العمدةُ في إغارتِهم {صُبْحًا} أي في وقتِ الصبحِ وهو المعتادُ في الغاراتِ يعدونَ ليلًا لئلا يشعرُ بهمْ العدوّ ويهجمونَ علهيمْ صباحًا ليَرَوا مَا يأتونَ ومَا يذرونَ وَقوله تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ} عطفٌ على الفعلِ الذي دلَّ عَلَيهِ اسمُ الفاعلِ إذِ المَعْنى واللاتِي عدونَ فأورينَ فأغرنَ فأثرنَ بهِ أيْ فهيجنَ بذلكَ الوقتِ {نَقْعًا} أيْ غُبارًا وتخصيصُ إثارتِه بالصُّبحِ لأنَّه لا يثورُ أو لا يظهرُ ثورانُه بالليل وبهذا ظهرَ أنَّ الإيراءَ الذي لا يظهرُ في النهارِ واقعٌ في الليل ولله درُّ شأنِ التنزيلِ وَقيلَ النقعُ الصياحُ والجَلَبةُ وقرئ فأثَّرنَ بالتشديدِ بمَعْنى فأظهرنَ بهِ غُبارًا لأنَّ التأثيرَ فيهِ مَعْنى الإظْهارِ {فَوَسَطْنَ بِهِ} أي توسطنَ بذلك الوقتِ أو توسطنَ ملتبساتٍ بالنقعِ {جَمْعًا} من جموعِ الأعداءِ والفاءاتُ للدلالةِ عَلَى ترتبِ ما بعدَ كُلَ مِنْها عَلى ما قبلَها كَما في قوله:
يَا لهفَ زيّابةَ للحارثِ الصَّابحِ فالغَانمِ فالآيبِ

فإنَّ توسطَ الجمعِ مترتبٌ عَلى الإثارةِ المترتبةِ على الإغارةِ المترتبةِ على الإيراءِ المترتبِ على العدوِ.
وقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لِرَبّهِ لَكَنُودٌ} أَيْ لكفورٌ مِنْ كندَ النعمةَ كنودًا جوابُ القسمِ والمرادُ بالإنسان بعضُ أفرادِه.
روي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعثَ إلى أناسٍ منْ بنِي كنانةَ سريةً واستعملَ عليَها المنذرَ بنَ عمروٍ الأنصاريَّ وكانَ أحد النقباءِ فأبطأ عليهِ الصلاةُ والسلام خبرُهَا شهرًا فقال المنافقونَ إنُهم قُتلوا فنزلتْ السورةُ إخبارًا للنبيِّ عليهِ عليه الصلاةُ والسلام بسلامتِها وبشارةً لهُ بإغارتِها على القومِ ونعيا علي المُرجفينَ في حقِّهم مَا هُم فيهِ من الكنودِ وفي تخصيصِ خيلِ الغُزاةِ بالإقسامِ بَها منَ البراعةِ ما لا مزيدَ عليهِ كأنه قيلَ: وخيلِ الغُزاةِ التي فعلتْ كيتَ وكيتَ وقد أرجفَ هؤلاءِ في حقِّ أربابِها ما أرجفُوا أنهم مبالغونَ في الكفرانِ {وَإِنَّهُ على ذَلِكَ} أيْ وإنَّ الإنسان على كنودِه {لَشَهِيدٌ} يشهدُ عَلى نفسِه بالكنودِ لظهورِ أثرِه عليهِ {وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير} أي المالِ كمَا في قوله تعالى إنْ تركَ خيرًا {لَشَدِيدٌ} أيْ قويٌ مطيقٌ مجدٌّ في طلبِه وتحصيلِه متهالكٌ عليهِ يقال هُوَ شديدٌ لهذا الأمر وقويٌّ لَهُ إذا كانَ مطيقًا لَهُ ضَابطًا وقيلَ: الشديدُ البخيلُ أيْ إنَّه لأجلِ حُبِّ المالِ وثقلِ إنفاقِه عليهِ لبخيلٌ ممسكٌ ولعَلَّ وصفَهُ بهذا الوصفِ القبيحِ بعدَ وصفِه بالكنودِ للإيماءِ إلى أنَّ من جملةِ الأمورِ الداعيةِ للمنافقينَ إلى النفاقِ حبَّ المالِ لأنَّهم بما يظهرونَ من الإيمانِ يعصمونَ أموالَهُم ويحوزونَ من الغنائمِ نصيبًا وقوله تعالى: {أَفَلاَ يعلم إِذَا بُعْثِرَ مَا في القبور} إلخ تهديدٌ ووعيدٌ والهمزةُ للإنكارِ والفاءُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أيفعلُ ما يفعلُ من القبائحِ أو أَلا يلاحظُ فلا يعلم حالَهُ إذا بعثَ منْ فِي القبورِ من المَوْتى وإيرادُ ما لكونِهم إذْ ذاكَ بمعزلَ عنْ رتبةِ العقلاءِ وقرئ بُحْثرَ وبُحِثَ وبَحْثَر وبَحَثَ على بنائهِما للفاعلِ {وَحُصّلَ} أَيْ جمعَ محصلًا أوْ ميز خيرُه من شرِّهِ وقرئ وحَصَّلَ مبنيًا للفاعلِ وحَصَلَ مخففًا {مَا في الصدور} منَ الأسرارِ الخفيةِ التي منْ جُملتِها ما يخفيه المنافقونَ من الكفرِ والمعاصِي فضلًا عن الأعمالِ الجليةِ {إِنَّ رَبَّهُم} أي المبعوثينَ كَنَّى عنْهُم بعدَ الإحياءِ الثاني بضميرِ العُقلاءِ بعدَ مَا عبرَ عنهُمْ قبلَ ذلكَ بَما بناءً على تفاوتِهم في الحالينِ كما فعلَ نظيرَهُ بعد الإحياءِ الأولِ حيثُ التفتَ إلى الخطابِ في قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار} الأيةَ بعدَ قوله: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} إيذانًا بصلاحيتِهم للخطابِ بعد نفخِ الروحِ وبعدمِها قبلَه كما أُشيرَ إليهِ هناكَ {بِهِمُ} بذواتِهم وصفاتِهم وأحوالِهم بتفاصيلِها {يَوْمَئِذٍ} يومَ إذْ يكونُ ما ذكرَ من بعثِ ما في القبورِ وتحصيلِ مَا فِي الصدورِ {لَّخَبِيرٌ} أيْ عالمٌ بظواهرِ ما عملُوا وبواطنِه علمًا موجبًا للجزاءِ متصلًا بهِ كما ينبئُ عنْهُ تقييدُه بذلكَ اليومِ وإلاَّ فمطلقُ علمِه سبحانه محيطٌ بَما كانَ وما سيكونُ وقوله تعالى بِهم ويومئذَ متعلقانِ بخبيرٍ قدمَا عليه لمراعاة الفواصلِ واللامُ غيرُ مانعةٍ من ذلكَ وقرأ ابنُ السَّماكِ إنَّ ربَّهم بهمْ يومئذٍ خبيرٌ. اهـ.

.قال السمرقندي: في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {والعاديات ضَبْحًا}
قال مقاتل: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى بني كنانة واستعمل عليهم المنذر به عمرو، الساعدي، فأبطأ عليه، خبرهم فاغتم لذلك فنزل عليه جبريل عليه السلام بهذه السورة يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمه عن حالهم فقال: {والعاديات ضبحًا} يعني: أفراس أصحابك يا محمد صلى الله عليه وسلم إنهم يسبحون في عدوهم {فالموريات قَدْحًا} يعني: النار التي تسطيع من حوافر الفرس إذا عدت في مكان ذي صخور وأحجار {فالمغيرات صُبْحًا} يعني: أصحابك يغيرون على العدوّ عند الصبح {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} يعني: يثيرون بحوافرهن التراب إذا عدت الفرس في مكان سهل يهيج التراب والغبار {نقعًا} يعني: أطراحًا على الأرض {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} يعني: أصحابك أصبحوا في وسط العدو مع الظفر والغنيمة فلا تغتم وقال الكلبي {والعاديات ضبحًا} يعني: أنفاس الخيل حين تتنفس إذا اجتهدت وقال ابن مسعود رضي الله عنه {والعاديات ضبحًا} يعني: الإبل بعرفات إذا دخل الحجاج مكة وروى عطاء عن ابن عباس في قوله: {والعاديات ضبحًا} قال الخيل وما أصبح دابة قط إلا كلب أو خنزير وهو يلهث كما يلهث الكلب وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هي الإبل تذهب إلى وقعة بدر.
وقال أبو صالح تقاولت مع عكرمة في قوله: {والعاديات ضبحًا} قال عكرمة قال ابن عباس هي الخيل في القتال فقلت مولاي يعني: علي بن أبي طالب رضي الله عنه أعلم من مولاك إنه كان يقول هي الإبل التي تكون بمكة حين تفيض من عرفات إلى جمع، وقال أهل اللغة: الضبح صوت حلوقها إذا عدت، والضبح والضبع واحد، يقال: ضبحت النوق وضبعت إذا عدت في المسير.
وهذا قسم أقسم الله تعالى بهذه الأشياء وجوابه قوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6] وقال بعضهم {فالموريات قدحًا} معناه فالمنجيات عملًا وهذا مثل ضربه الله تعالى فكما أن الأقداح تنجي الرجل المسلم من برد الشتاء والهلاك وإذا لم يكن معه الزند فيهلك في البرد فكذلك العمل الصالح ينجي العبد يوم القيامة ومن العذاب الهلاك وإذا لم يكن معه عمل صالح يهلك في العذاب ويقال: {فالموريات قدحًا} يعني: نارًا لأبي حباحب كان رجل في بعض أحياء العرب من أبخل الناس ولم يوقد نارًا حتى ينام كل ذي عين ثم يوقدها فإذا استيقظ أحد أطفأها لكي لا ينتفع بناره أحد بخلًا منه فكذلك الخيل حين اشتدت على الأرض الحصاة فقدحت النار بحوافرها لا ينتفع بها كما لا ينتفع بنار أبي حباحب ثم قال: {فالمغيرات صُبْحًا} يعني: الخُصَماء يغيرون على حسنات العبد يوم القيامة بمنزلة ريح عاصف يجيء ويرفع التراب الناقع من حوافر الدواب فذلك قوله تعالى: {فأثرن به نقعًا} ويقال هي الإبل ترجع من عرفات إلى مزدلفة ثم يرجعن إلى منى ويذبح هناك ويقسم الخمر ويوجد اللحم كأنهم أغاروها {فأثرن به نقعًا} يعني: هيّجن بالوادي غبارًا حين يرجعون من مزدلفة إلى منى وقوله تعالى: {به} كناية عن الوادي فكأنه يقول: {فأثرن به نقعًا} أي غبارًا ثم قال: {فوسطن به جمعًا} يعني: فوقعن بالوادي ويقال بالمكان جمعًا أي اجتمع الحاج بمنى.
ثم قال: {إِنَّ الإنسان لِرَبّهِ لَكَنُودٌ} فيه جواب القسم أقسم الله تعالى بهذه الأشياء وفيه بين ذكر فضل الغازي وفضل فرس الغازي على تفسير من فسر الآية على الفرس حين أقسم الله تعالى بالتراب الذي يخرج والنار التي تخرج من تحت حوافر فرس الغازي لأنه ليس عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله تعالى.
ومن فسر الآية على الإبل ففي الآية بيان فضل الحاج وفضل دواب الحاج حيث أقسم الله تعالى بالتراب الذي يخرج من تحت أخفاف إبل الحاج والنار التي تخرج منها حيث صارت في أرض الحجارة أن الإنسان لربه لكنود يعني: لبخيل قال مقاتل نزلت في قرط بن عبد الله وقال معنى (الكنود) بلسان كندة وبني حضرموت هو العاصي سيده وبلسان بني كنانة البخيل ويقال هو الوليد بن المغيرة ويقال هو أبو حباحب ويقال كان ثلاثة نفر في العرب في عصر واحد أحدهم آية في السخاء وهو حاتم الطائي والثاني آية في البخل وهو أبو حباحب والثالث آية في الطمع وهو أشعب، كان طماعًا، وكان من طمعه إذا رأى عروسًا تزف إلى موضع جعل يكنس باب داره لكي تدخل داره وكان إذا رأى إنسانًا يحك عنقه فيظن أنه ينزع القميص ليدفعه إليه ويقال (الكنود) الذي يمنع وفده ويجمع أهله ويضرب عبده ويأكل وحده ولا يعبأ للنائرة في قومه أي المصيبة، وقال الحسن: الكنود الذي يذكر المصائب وينسى النعم، ويقال الكنود الذي لا خير فيه، ويقال: الأرض التي غلب عليها السبخة ولا يخرج منها البذر أرض كنود.
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} يعني: الله تعالى حفيظ على صنعه عالم به {وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير لَشَدِيدٌ} يعني: الإنسان على جمع المال حريص وقال القتبي معناه إنه لحب المال لبخيل والشدة البخل ها هنا وقال الزجاج معناه أنه من أجل حب المال لبخيل وهذا موافق لما قال القتبي ثم قال عز وجل: {أَفَلاَ يعلم إِذَا بُعْثِرَ مَا في القبور} يعني: أفلا يعلم هذا البخيل إذا بعث الناس من قبورهم وعرضوا على الله تعالى بعثر يعني: أخرج {وَحُصّلَ مَا في الصدور} يعني: بين ما في القلوب من الخير والشر {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ} يعني: عالم بهم وبأعمالهم وبنيَّاتهم ومن أطاعه في الدنيا ومن عصاه فيها وفي الآية دليل أن الثواب يستوجب على قدر النية ويجري به لأنه قال عز وجل: {وحصل ما في الصدور} يعني: يحصل له من الثواب بقدر ما كان في قلبه من النية إن نوى بعمله وجه الله تعالى والدار الآخرة يحصل له الثواب على قدره والله أعلم. اهـ.